التنويم المغناطيسي واستخدامه

مقدمة

يُعد التنويم المغناطيسي من الظواهر النفسية التي حظيت باهتمام واسع عبر التاريخ، إذ يتقاطع فيها العلم مع الممارسة السريرية والروحانيات وحتى الأساطير. رغم أن مفهومه يُثير الفضول وربما الشك في آنٍ واحد، فإن التنويم المغناطيسي في العصر الحديث أضحى موضوعًا يخضع للدراسة المنهجية من قبل علماء النفس، الأطباء، وأخصائيي العلاج السلوكي. يُستخدم التنويم المغناطيسي اليوم في مجالات متعددة تتراوح بين العلاج النفسي وإدارة الألم، مرورًا بالتغلب على العادات السلبية، ووصولًا إلى تطوير الذات.

مفهوم التنويم المغناطيسي

التنويم المغناطيسي (Hypnosis) هو حالة من الوعي المتغيّر يتميز بالتركيز العميق والانتباه المركز، مع تقليل الإدراك بالمحيط الخارجي. خلال هذه الحالة، يكون الشخص المُنوَّم أكثر قابلية للإيحاء، وهو ما يُتيح للمعالج توجيه الأفكار والمشاعر والسلوكيات نحو أنماط جديدة.

يصف العلماء التنويم المغناطيسي بأنه “حالة ذهنية طبيعية تقع بين اليقظة والنوم”، حيث يحتفظ الفرد بالوعي لكنه يصبح أكثر انفتاحًا لتقبل الاقتراحات. تختلف درجات الاستجابة للتنويم من شخص إلى آخر، ويُعتقد أن حوالي 10-15٪ من الناس يُظهرون قابلية عالية للتنويم المغناطيسي.

تاريخ التنويم المغناطيسي

يرجع استخدام التنويم المغناطيسي إلى الحضارات القديمة، بما في ذلك المصريين واليونانيين والهنود، الذين استخدموا تقنيات مشابهة للوصول إلى حالات الوعي البديلة لأغراض طبية ودينية. ومع ذلك، بدأ التطوير المنهجي لهذا المجال في القرن الثامن عشر مع الطبيب النمساوي فرانز أنطون ميسمر، الذي استخدم ما سماه بـ “المغناطيسية الحيوانية”، وهي نظرية قائمة على وجود طاقة غير مرئية تؤثر على الجسد.

في القرن التاسع عشر، أدخل الطبيب البريطاني جيمس بريد مصطلح “التنويم المغناطيسي”، معتبرًا أن الحالة الناتجة ليست نتيجة مغناطيسية بل ظاهرة نفسية يمكن تفسيرها عبر الاسترخاء والتركيز. لاحقًا، تطور علم التنويم ليصبح جزءًا من الأدوات النفسية والعلاجية، وتوسع استخدامه ضمن الممارسة الطبية السريرية الحديثة.

الآلية العلمية للتنويم المغناطيسي

يعتمد التنويم المغناطيسي على تأثير الإيحاء في حالات التركيز المرتفع. عندما يدخل الفرد في حالة التنويم، تتغير أنماط نشاط الدماغ، خصوصًا في المناطق المسؤولة عن الوعي الذاتي والانتباه، وتزداد موجات ألفا وثيتا الدماغية، مما يهيّئ الدماغ لتقبّل الأفكار والاقتراحات بشكل أسرع وأكثر فعالية.

أظهرت التصويرات العصبية الحديثة (مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي) أن التنويم يُنشّط مناطق معينة من الدماغ مثل القشرة الحزامية الأمامية، المرتبطة بالتركيز والتحكم في الألم، كما يقلل من نشاط قشرة الفص الجبهي، المرتبطة بالرقابة الذاتية. هذا ما يُفسّر كيف يُمكن إقناع شخص ما أثناء التنويم بتغيير سلوك أو تخفيف ألم دون الحاجة إلى تدخلات فيزيائية.

استخدامات التنويم المغناطيسي في الطب

1. علاج الألم

يُستخدم التنويم المغناطيسي كوسيلة فعّالة في السيطرة على الألم المزمن والحاد. وقد أظهرت الدراسات أن المرضى الذين يخضعون للتنويم المغناطيسي يشعرون بانخفاض كبير في الإحساس بالألم. تُستخدم هذه التقنية في حالات مثل الولادة الطبيعية، ألم المفاصل، آلام الظهر، وحتى في الإجراءات الجراحية لدى المرضى الذين لا يمكن إعطاؤهم التخدير الكيميائي.

2. التنويم المغناطيسي في علاج القلق والاكتئاب

ثبت أن التنويم المغناطيسي يمكن أن يُساعد في التخفيف من أعراض القلق والتوتر المزمن. يُستخدم ضمن برامج العلاج المعرفي السلوكي لتعزيز فعالية الاستجابات الإيجابية وتقليل التفكير السلبي. كما يُسهم في تمكين الأفراد من إعادة برمجة معتقداتهم الذاتية وتعزيز احترام الذات، ما يساعد في تحسّن حالات الاكتئاب الطفيفة والمتوسطة.

3. الإقلاع عن العادات السيئة

يُعد التنويم المغناطيسي أداة مساعدة في برامج الإقلاع عن التدخين، وتعاطي الكحول، والإفراط في تناول الطعام. حيث يُعيد بناء نمط التفكير والسلوك لدى الشخص، ويُحفّزه على رفض الرغبة الملحّة تجاه هذه العادة الضارة. تختلف النتائج حسب استعداد الشخص وتكرار الجلسات، إلا أن العديد من التقارير تُشير إلى نجاح هذه الطريقة في عدد كبير من الحالات.

4. علاج اضطرابات النوم

أثبت التنويم المغناطيسي فعاليته في التعامل مع مشاكل النوم مثل الأرق، الكوابيس المزمنة، واضطرابات النوم العميق. يُساعد على الوصول إلى حالة من الاسترخاء العميق، مما يُسهّل الدخول في النوم ويحسّن نوعيته، وهو ما يجعل استخدامه شائعًا في عيادات النوم الحديثة.

5. التنويم المغناطيسي في دعم الأداء الرياضي والذهني

يعتمد الرياضيون المحترفون على التنويم المغناطيسي لتحسين التركيز، الثقة بالنفس، والتحفيز الذاتي. يمكن من خلال الجلسات الموجهة إزالة العوائق النفسية وتحفيز القوة العقلية على الاستمرارية. كما يُستخدم من قِبل الطلاب والمديرين والمهنيين لتحسين مهارات الحفظ والتخطيط والإبداع.

الجدول التالي يُلخّص أبرز استخدامات التنويم المغناطيسي:

التنويم المغناطيسي الذاتي

يمكن للفرد أن يتعلم تقنيات التنويم المغناطيسي الذاتي (Self-Hypnosis)، وهي عملية يستخدم فيها الشخص نفسه للوصول إلى حالة من التركيز العالي والاسترخاء، بهدف تحقيق أهداف محددة مثل تقليل التوتر أو تحسين الأداء أو التحكم في الألم. تتضمن الخطوات الأساسية لذلك:

• اختيار بيئة هادئة.

• الجلوس أو الاستلقاء في وضع مريح.

• التنفس العميق والمركّز.

• استخدام عبارات إيحائية إيجابية.

• الاستمرار في ذلك لعدة دقائق حتى الوصول إلى حالة الاستجابة.

هذه الممارسة تتطلب تدريبًا وانضباطًا، ولكنها وسيلة فعّالة لتعزيز الصحة النفسية والقدرة على التعامل مع التحديات اليومية.

التنويم المغناطيسي بين الحقيقة والأسطورة

رغم أن التنويم المغناطيسي مدعوم بعدد متزايد من الأدلة العلمية، إلا أنه لا يزال يُحاط بالعديد من الأساطير والمفاهيم الخاطئة. يعتقد البعض أنه شكل من أشكال السيطرة على العقل، أو أن الشخص يصبح فاقدًا للسيطرة بالكامل، وهي أفكار لا تدعمها الأبحاث الحديثة. في الواقع، الشخص المُنوَّم يحتفظ بقدرته على اتخاذ القرار، ويمكنه إنهاء الجلسة في أي وقت.

يُشار أيضًا إلى أن التنويم لا يُعتبر علاجًا سحريًا، بل هو أداة تُستخدم ضمن إطار شامل من العلاج. فعاليتها تتفاوت من شخص إلى آخر بناءً على الاستعداد العقلي، الثقة بالمعالج، والانفتاح الذهني.

شروط ممارسة التنويم المغناطيسي

في كثير من الدول، يُشترط أن يكون المُعالج بالتنويم المغناطيسي طبيبًا أو أخصائيًا نفسيًا مُرخّصًا. وتهدف هذه القوانين إلى ضمان سلامة المرضى والحد من الممارسات العشوائية. من الضروري أن يتم التنويم المغناطيسي ضمن بيئة مهنية، وتحت إشراف مختصّين مُدرّبين بشكل كافٍ.

التنويم المغناطيسي في الأدب والفن

انعكس التنويم المغناطيسي في الأدب والسينما كأداة درامية تثير الغموض والخوف، حيث يتم تصوير المُنوِّم كمسيطر خارق على عقول الآخرين. أفلام مثل Hypnotic و The Hypnotist وGet Out قدّمت تصورات مثيرة عن هذا العلم، لكن معظمها بعيد عن الواقع الطبي والنفسي الذي يمثله التنويم في الحقيقة. هذا التناول الفني أسهم من جهة في إثارة اهتمام الجمهور، ومن جهة أخرى في تعزيز المفاهيم الخاطئة التي تُعيق استخدامه الصحيح في السياق العلاجي.

القيود والتحذيرات

رغم الفوائد المثبتة، هناك بعض الحالات التي يُحذر فيها من استخدام التنويم المغناطيسي، مثل حالات الاضطرابات الذهانية، الهلوسات، أو المرضى الذين يعانون من اختلالات شديدة في الهوية والانفصام. كما يجب توخي الحذر في استخدامه للأطفال أو كبار السن دون إشراف طبي.

تجدر الإشارة إلى أن بعض الأشخاص لا يستجيبون للتنويم المغناطيسي، إما بسبب مقاومة نفسية داخلية، أو بسبب توقعات غير واقعية من الجلسات. كذلك فإن الاعتماد المفرط عليه قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مما يستلزم الموازنة بين استخدامه وتقنيات العلاج الأخرى.

الخلاصة

يُعتبر التنويم المغناطيسي أحد أبرز الأدوات النفسية ذات الاستخدامات المتعددة في مجالات الطب والعلاج السلوكي. يمتد تأثيره من السيطرة على الألم إلى إعادة تشكيل السلوكيات والأفكار، وهو ما يجعله أداة ذات قيمة عالية ضمن الممارسة السريرية الحديثة. ورغم ما يحيط به من مفاهيم شعبية مغلوطة، فإن التنويم المغناطيسي المبني على الأسس العلمية يواصل إثبات فعاليته في تحسين نوعية حياة الأفراد، متى ما استُخدم ضمن الإطار المهني الصحيح وتحت إشراف المختصين المؤهلين.

المصادر

1. Spiegel, D., & Greenleaf, M. (2007). Hypnosis and psychosomatic medicine. In E. A. Mayer (Ed.), The Neurobiology of the Pain System. Elsevier.

2. Lynn, S. J., Kirsch, I., & Hallquist, M. N. (2008). Social cognitive theories of hypnosis. In Nash, M., & Barnier, A. (Eds.), The Oxford Handbook of Hypnosis. Oxford University Press.